فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقرأ حمزة والكسائي: بضم الضاد والباقون بفتحها {أو أراد بكم نفعًا} يحفظهما به في غيبتكم فلا يضرّهم بعدكم عنهم ويحفظكم في أنفسكم {بل كان الله} أي: المحيط أزلًا وأبدًا بكل شيء قدرةً وعلمًا {بما تعملون} أي أيها الجهلة {خبيرًا} يعلم بواطن أموركم هذه وغيرها كما يعلم ظواهرها.
{بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَالِكَ في قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمَا بُورًا وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَارْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا سَيَقول الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَالِكُمْ قال الله مِن قَبْلُ فَسَيَقولونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا يَفْقَهُونَ إلا قَلِي}.
{بل ظننتم} أي: فأنتم واقفون مع الظنون الظاهرة ليس لكم نفوذ إلى البواطن. وقرأ الكسائي: بإدغام اللام في الظاء والباقون بالإظهار وأشار إلى تأكد ظنهم على زعمهم بقوله تعالى: {أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدًا} أي: ظننتم أنّ العدوّ يستأصلهم ولا يرجعون لما في قلوبكم من عظمة المشركين وحقارة المؤمنين فحملكم ذلك على أن قلتم ما هم في قريش إلا أكلة رأس، فإن قيل: ما الفرق بين حرفي الإضراب أجيب: بأنّ الإضراب الأول إضراب معناه ردّ أن يكون حكم الله أن لا يتبعوه وإثبات الحسد والثاني إضراب عن وصفهم بإضافة الحسد إلى المؤمنين أي وصفهم بما هو أعمّ منه وهو الجهل وقلة الفقه {وزين ذلك} أي: الأمر القبيح الذي هو خراب الدنيا {في قلوبكم} حتى قلتموه {وظننتم} أي: بذلك وغيره مما يترتب عليه من إظهار الكفر وما يتفرّع عنه {ظنّ السوء} أي: الذي لم يدع شيئًا مما يكره غاية الكراهة إلا أحاط به وقوله تعالى: {وكنتم قومًا بورًا} جمع بائر أي هالكين عند الله تعالى بهذا الظنّ وهذا بالنظر إلى الجمع من حيث هو جمع لا بالنسبة إلى كل فرد فإنه قد أخلص منهم بعد ذلك كثير وثبتوا ولم يرتدّوا.
{ومن لم يؤمن} أي: منكم ومن غيركم {بالله} أي: الذي لا موجود على الحقيقة سواه {ورسوله} أي: الذي أرسله لإظهار دينه {فإنا} على مالنا من العظمة {اعتدنا} أي: له هكذا كان الأصل ولكنه قال تعالى معلللًا للحكم بالوصف {للكافرين} إيذانًا بأنه لم يجمع الإيمان بهما فهو كافر وأعدّ له {سعيرًا} أي: نارًا شديدة.
{ولله} أي: الملك الأعظم وحده {ملك السموات والأرض} أي: من الجنود وغيرها يدبر ذلك كله كيف يشاء {يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} أي: لا اعتراض لأحد عليه لأنه لا يجب عليه شيء ولا يكافئه أحد وليس هو كالملوك الذين لا يتمكنون من مثل ذلك لكثرة الأكفاء المعارضين لهم في الجملة وعلم من هذا أنّ منهم من يرتدّ فيعذبه ومنهم من يثبت على الإسلام فيغفر له لأنه لا يعذب بغير ذنب وإن كان له أن يفعل ذلك لأنه لا يسئل عما يفعل وملكه تامّ فتصرفه فيه عدل كيف كان {وكان الله} أي: المحيط بصفات الكمال أزلًا وأبدًا لم يتجدّد له شيء لم يكن {غفورًا} أي: لذنوب المسيئين {رحيمًا} أي: مكرمًا ما بعد الستر بما لا تسعه العقول وقدرته على الإنعام كقدرته على الانتقام.
{سيقول} أي: بوعد لا خلف فيه {المخلفون} أي: الذين تخلفوا عن الحديبية {إذا انطلقتم} أي: سرتم أيها المؤمنون {إلى مغانم لتأخذوها} أي: مغانم خيبر. وذلك أنّ المؤمنين لما انصرفوا من الحديبية على صلح من غير قتال ولم يصيبوا من المغانم شيئًا وعدهم الله تعالى فتح خيبر وجعل غنائمها لم شهد الحديبية خاصة عوضًا عن غنائم أهل مكة حيث انصرفوا عنهم ولم يصيبوا منهم شيئًا {ذرونا} أي: على أيّ حالة شئتم من الأحوال الدنيئة {نتبعكم} أي: إلى خيبر لنشهد معكم قتال أهلها وفي هذا بيان كذب المخلفين عن الحديبية حيث قالوا شغلتنا أموالنا وأهلونا إذ لم يكن لهم هناك طمع في الغنيمة وهنا قالوا ذرونا نتبعكم حيث كان لهم طمع في الغنيمة {يريدون} أن بذهابهم معكم {أن يبدّلوا كلام الله} أي: يريدون أن يغيروا مواعيد الملك الأعظم لأهل الحديبية بغنيمة خيبر خاصة وهذا قول جمهور المفسرين.
وقال مقاتل: يعني أمر الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم حيث أمره أن لا يسير معه منهم أحد إلى خيبر. وقال ابن زيد: هو أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما تخلف القوم أطلعه الله تعالى على ظنهم وأظهر له نفاقهم وقال للنبيّ صلى الله عليه وسلم {فإذا استأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدًا}.
وقرأ حمزة والكسائي: بكسر اللام بعد الكاف ولا ألف بعد اللام والباقون بفتح اللام وألف بعدها {قل} يا أشرف الخلق لهؤلاء المبعدين إذا بلغك كلامهم أنت بنفسك فإنّ غيرك لا يقوم مقامك في هذا الأمر المهمّ قولا مؤكدًا {لن تتبعونا} أي: وإن اجتهدتم في ذلك وساقه مساقه النفي وإن كان المراد به النهي مع كونه آكد ليكون علمًا من أعلام النبوّة وهو أزجر وأدل على استهانتهم {كذلكم} أي مثل هذا القول البديع الشأن العالي الرتبة {قال الله} أي: الذي لا يكون إلا ما يريد وليس هو كالملوك الذين لا قدرة لهم على الغفران لمن شاؤوا والعقاب لمن شاؤوا {من قبل} أي: من قبل مرجعنا إليكم أن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية ليس لغيرهم فيها نصيب ولما كانوا منافقين لا يعتقدون شيئًا من هذه الأقوال بل يظنون أنها حيل على التوصل إلى المرادات الدنيوية سبب عن قوله لهم ذلك قوله تعالى تنبيهًا على جلافتهم وفساد ظنونهم {فسيقولون} ليس الأمر كما ذكر مما ادعى أنه قول الله تعالى: {بل} إنما قلتم ذلك لأنكم {تحسدوننا} فلا تريدون أن يصل إلينا من مال الغنائم شيء وقرأ هشام وحمزة والكسائي بإدغام اللام في التاء والباقون بالإظهار.
{بل كانوا} أي: جبلة وطبعًا {لا يفقهون} أي: لا يفهمون فهم الحاذق الماهر {إلا قليلًا} أي: في أمر دنياهم ومن ذلك إقرارهم باللسان لأجلها، وأمّا أمور الآخرة فلا يفهمون منها شيئًا.
{قل} أي: يا أشرف الرسل {للمخلفين} وزاد في ذمّهم بنسبتهم إلى الجلافة بقوله تعالى: {من الأعراب} أي: أهل غلظ الأكباد {ستدعون} بوعد لا خلف فيه {إلى قوم أولي} أي: أصحاب {بأس شديد} أي: شدّة في الحرب وشجاعة قال ابن عباس ومجاهد: هم أهل فارس. وقال كعب: الروم. وقال الحسن: فارس والروم. وقال: سعيد بن جبير: هوازن وثقيف. وقال قتادة: هوازن وغطفان قوم حنين. وقال الزهري ومقاتل وجماعة: هم بنو حنيفة أصحاب اليمامة أصحاب مسيلمة الكذاب. وقال رافع بن خديج: كنا نقرأ هذه الآية ولا نعلم من هم حتى دعا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم هم. وقال أبو هريرة: لم يأت تأويل هذه الآية بعد قال ابن الخازن: وأقوى هذه الأقوال قول من قال أنهم هوازن وثقيف، لأنّ الداعي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده قول من قال أنهم بنو حنيفة أصحاب مسيلمة الكذاب وقوله تعالى: {تقاتلونهم أو يسلمون} فيه إشارة إلى وقوع أحد الأمرين إما المقاتلة منكم وإمّا الإسلام منهم فإن لم يسلموا كان القتال لا غير وإن أسلموا لم يكن قتال لأنّ الغرض ليس إلا إعلاء كلمة الله تعالى {فإن تطيعوا} أي: توقعوا الطاعة للداعي إلى ذلك {يؤتكم الله} أي: الذي له الإحاطة {أجرًا حسنًا} دنيا وهو الغنيمة وأخرى وهي الجنة {وإن تتولوا} أي تعرضوا عن الجهاد {كما توليتم من قبل} أي عام الحديبية {يعذبكم} أي يخالطكم بعقوبة تزيل العذوبة في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما {عذابًا أليمًا} لأجل تكرّر ذلك منكم فلما أنزلت هذه الآية، قال أهل الزمانة كيف بنا يا رسول الله فأنزل الله عز وجلّ.
{ليس على الأعمى} أي: في تخلفه عن الدعاء إلى الخروج مع النبيّ صلى الله عليه وسلم أو مع غيره من أئمة الهدى {حرج} أي: ميل بثقل الإثم لأنه لا يمكنه الإقدام على العدوّ والطلب ولا يمكنه الاحتراز منه ولا الهرب {ولا على الأعرج} وإن كان نقصه أدنى من نقص الأعمى {حرج} وفي معنى الأعرج الزمن المقعد والأقطع {ولا على المريض} أي: بأي مرض كان يمنعه {حرج} وفي معناه صاحب السعال الشديد والطحال الكبير والذين لا يقدرون على الكرّ والفرّ فهذه أعذار مانعة من الجهاد ظاهرة، ومن وراء ذلك أعذار أخر دون ما ذكر كتمريض المريض الذي ليس له من يقوم مقامه عليه.
تنبيه: جعل تعالى كل جملة مستقلة تأكيدًا لهذا الحكم وقدم الأعمى على الأعرج لأنّ عذر الأعمى مستمر لا يمكن الانتفاع به في حرس ولا غيره بخلاف الأعرج وقدم الأعرج على المريض لأنّ عذره أشد من عذر المريض لإمكان زوال المرض عن قرب.
{ومن يطع الله} أي: المحيط بجميع صفات الكمال المفيض من آثار صفاته على من يشاء ولو كان ضعيفًا. المانع منها من يشاء وإن كان قويًا {ورسوله} من المعذورين وغيرهم فيما ندبا إليه بأيّ طاعة كانت {يدخله} أي: الله الملك الأعظم جزاء له {جنات تجري من تحتها الأنهار} أي: من أيّ موضع أردت أجريت نهرًا {ومن يتولّ} أي يعرض عن الطاعة ويستمّر على الكفر والنفاق {يعذبه} أي على توليه في الدارين أو إحداهما {عذابًا أليمًا} أي مؤلمًا وقرأ نافع وابن عامر ندخله ونعذبه بالنون فيهما والباقون بالياء التحتية. اهـ.

.قال القاسمي:

سورة الفتح:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا}.
قال الرازي: في الفتح وجوه:
أحدها- فتح مكة، وهو ظاهر.
وثانيها- فتح الروم وغيرها.
وثالثها- المراد من الفتح، صلح الحديبية.
ورابعها- فتح الإسلام بالحجة والبرهان، والسيف والسنان.
وخامسها- المراد منه الحكم، كقوله: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 89]، وقوله: {ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} [سبأ: 26]. انتهى.
ولا يخفى أن الوجوه المذكورة كلها، مما يصدق عليها الفتح الرباني، وجميعها مما تحقق مصداقه. إلا أن سبب نزول الآية، الذي حفظ الثقات زمنه، يبين المراد من الفتح بيانًا لا خلاف معه، وهو أنه الوجه الثالث المذكور.
قال الإمام ابن كثير: نزلت هذه السورة الكريمة لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية، في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة، حين صدّه المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام، ليقضي عمرته فيه، وحالوا بينه وبين ذلك، ثم مالوا إلى المصالحة والمهادنة، وأن يرجع عامه هذا، ثم يأتي من قابل، فأجابهم إلى ذلك، على تكرّهٍ من جماعة من الصحابة، منهم عُمَر بن الخطاب، رضي الله عنهم كما سيأتي تفصيله في موضعه من تفسير هذه السورة إن شاء الله تعالى. فلما نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم هديه حيث أُحصر ورجع، أنزل الله عز وجل هذه السورة، فيما كان من أمره وأمرهم، وجعل ذلك الصلح فتحًا، باعتبار ما فيه من المصلحة، وما آل الأمر إليه، كما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه وغيره أنه قال: إنكم تعدون الفتح فتح مكة، ونحن نعد الفتح صلح الحديبية. وعن جابر رضي الله عنه قال: ما كنا نعد الفتح إلا يوم الحديبية. روى البخاري عن البراء رضي الله عنه قال: تعدون أنتم الفتح فتحَ مكة، وقد كان فتح مكة فتحًا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان، يوم الحديبية.
وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال: نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} مرجعه من الحديبية. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد أنزلت علي آية أحب إلي مما على الأرض»، ثم قرأها عليهم النبي صلى الله عليه وسلم- أخرجاه في (الصحيحين) من رواية قتادة به-.
وروى الإمام أحمد عن مجمع بن جارية الأنصاري رضي الله عنه- وكان أحد القراء الذين قرأوا القرآن- قال: شهدنا الحديبية، فلما انصرفنا عنها، إذا الناس، ينفرون الأباعر. فقال الناس بعضهم لبعض: ما للناس؟ قالوا: أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجنا مع الناس نرجف، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته عند كراع الغميم، فاجتمع الناس عليه، فقرأ عليهم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا}.
قال، فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي: رسول الله! أو فتح هو؟ قال صلى الله عليه وسلم: أي: والذي نفس محمد بيده! إنه لفتح. ورواه أبو داود في الجهاد.
ثم قال ابن كثير: فالمراد بقوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا}- أي: بينًا ظاهرًا- هو صلح الحديبية، فإنه حصل بسببه خير جزيل، وأمِن الناس، واجتمع بعضهم ببعض، وتكلم المؤمن مع الكافر، وانتشر العلم النافع والإيمان. انتهى.
وقال الإمام ابن القيم في (زاد المعاد) في الكلام على ما في غزوة الحديبية من الفقه واللطائف، ما مثاله:
كان صلح الحديبية مقدمة وتوطئة بين يدي هذا الفتح العظيم، أمن الناس به، وكلّم بعضهم بعضًا، وناظره في الإسلام، وتمكّن من اختفى من المسلمين بمكة من إظهار دينه، والدعوة إليه، والمناظرة عليه، ودخل بسببه بشرٌ كثيرٌ في الإسلام؛ ولهذا سماه الله فتحًا في قوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} نزلت في الحديبية، فقال عمر: يا رسول الله! أو فنح هو؟ قال: نعم. وأعاد سبحانه ذكر كون ذلك فتحًا قريبًا. وهذا شأنه سبحانه أن يقدم بين يدي الأمور العظيمة مقدمات تكون كالمدخل إليها، المنبئة لها وعليها، كما قدم بين يدي قصة المسيح، وخلقه من غير أب، قصة زكريا، وخلق الولد له، مع كونه كبيرًا، لا يولد لمثله. وكما قدم بين يدي نسخ القبلة، قصة البيت، وبنائه، وتعظيمه، والتنويه به، وذكر بانيه، وتعظيمه ومدحه. ووطأ قبل ذلك كله بذكر النسخ، وحكمته المقتضية له، وقدرته الشاملة له. وهكذا ما قدم بين يدي مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من قصة الفيل، وبشارات الكهان به، وغير ذلك. وكذلك الرؤيا الصالحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانت مقدمة بين يدي الوحي في اليقظة. وكذلك الهجرة، كانت مقدمة بين يدي الأمر بالجهاد. ومن تأمّل أسرار الشرع والقدر، رأى من ذلك ما تبهر حكمته أولي الألباب. انتهى. وقوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا}.
{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} قال أبو السعود: غاية للفتح، من حيث إنه مترتب على سعيه عليه الصلاة والسلام في إعلاء كلمة الله تعالى، بمكابدة مشاقّ الحروف، واقتحام موارد الخطوب {مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} أي: جميع ما فرط منك، من ترك الأولى. وتسميته ذنبًا، بالنظر إلى منصبه الجليل.
قال ابن كثير: هذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم التي لا يشاركه فيها غيره، وليس في حديث صحيح في ثواب الأعمال كغيره، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وهذا فيه تشريف عظيم لرسول اله صلى الله عليه وسلم في جميع أموره على الطاعة والبرّ والاستقامة التي لم ينلها بشر سواه، لا من الأولين، ولا من الآخرين. وهو صلى الله عليه وسلم أكمل البشر على الإطلاق، وسيدهم في الدنيا والآخرة. ولما كان أطوع خلق الله تعالى لله، وأشدهم تعظيمًا لأوامره ونواهيه، قال حين بركت به الناقة: حبسها حابس الفيل. ثم قال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده! لا يسألوني اليوم شيئًا يعظمون به حرمات الله إلا أجبتهم إليها، فلما أطاع الله في ذلك، وأجاب إلى الصلح، قال الله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} الآيات».
وقوله تعالى: {وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} أي: بإظهاره إياك على عدوّك، ورفعه ذكرك {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} أي: ويرشدك طريقًا من الدين لا عوج فيه. قال أبو السعود: أصل الاستقامة، وإن كانت حاصلة قبل الفتح، لكن حصل بعد ذلك من اتضاح سبيل الحق، واستقامة مناهجه، ما لم يكن حاصلًا قبل.